arablog.org

همسات المبدع محمد بن سلامة، عن الفن و الوطن و الكفاح من أجل الموسيقى الملتزمة بتونس.

من الصعب الحوار مع فنان بحجم محمد بن سلامة ، شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره سينمائي و شاعر و كاتب صحفي و موسيقي و له منحى الفلاسفة إختار الفن الملتزم و ناضل في الوسط الثقافي بتونس و بالعالم ليرسم بغيثارته و بقلمه ملامح مشروع ثقافي وطني يهمس بالحب و بالرقي في زمن النيو ليبرالية الرأسمالية حيث المتشابهات و دعاة الغناء يشغلون شاشات العروض .
من أجل ذلك إخترت القليل من الأسئلة مع هذا الشيخ الصغير لننهل منه الكثير .

arablog: متى بدأ محمد بن سلامة قصته مع الموسيقى ؟
محمد بن سلامة : محمد بن سلامة مع غيثارتهكل الحكاية ابتدأت في سن العاشرة. عصا تستعمل في تنظيف البلاط، او كما يصطلح عليها بالدارجة”عصا مصلحة”، يمسكها طفل لم يكمل بعد حوله العاشر، يدق فيها مسمارين صدئين احدهما في المقدمة والأخرى في المؤخرة ثم يصلهما بخيط يستعمل للتطريز عادة ما يتم السطو عليه من علبة الخياطة التي تستعملها الأم. هكذا ابتدأت أولى حروب الكر والفر مع السلطة العائلية المضيقة. كل هذا من اجل ممارسة العادة السرية.. وهنا اقصد الوقوف أمام المرآة حاملا الة القيثارة الافتراضية مقلدا حركات بي بي كينغ او جيمي هندريكس
هكذا كبرت أحلام الطفولة، اذكر انني كنت اقضي ساعات تارة تحت المطر او الشمس أمام مغازة ليبع الآلات الموسيقية في شارع مرسيليا بالعاصمة أمام قيثارتي الأولى قبل ان تعلمني أمي أنها ستقتنيها لي مكرهة لا بطلة بعد ان استنفذت كل عصي تنظيف البلاط. كان ذالك الانتصار الأول بالنسبة لطفل عنيد، بحيث لم استطع النوم ليلتها إلا حين لامست أناملي لأول مرة أوتار عشيقتي الأولى.
لم ادري كيف التحقت بمدرسة الفنون الشعبية بسيدي صابر او كيف كنت امضي أربعة عشرة ساعة أمام جبل من النوتات، لكن اذكر جيدا ان الارهاق يتلاشى حين أضع ألبوما كاملا لبوب ديلان لأعزف معه بتناغم عبر الكاسات المرقعة التي كنت مضطرا لتلصيق شريطها كلما ابتلعته المسجلة المتهالكة.
لم ادري ايضا كم سنة مرت على تلك الوتيرة قبل الالتحاق بمجموعة الروك انار سيركل واقوم بعد زمن قصير بعرضي الأول في مسرح نجمة الشمال حيث كان عمري آنذاك ستة عشرة سنة، كما لم اصدق كيف غص المسرح بالتصفيق على أداء المجموعة وأدائي انا بشكل خاص.
أتذكر أن العروض تتابعت في ذالك الزمن الجميل. لم أتوقف البتة من المحاولة في تحسين أدائي على الآلة وتطوير ثقافتي الموسيقية من السوينق والبلوز والفلامينكو الى الموشحات التونسية حينها كانت مشاركاتي المتعاقبة في المهرجان المتوسطي للغيتار فرصة للتعرف واللعب مع فنانين من طراز رفيع مثل جون فيليكس لانان ومجموعة هوبا هوبا سبيريت كان هذا متزامنا مع التربصات مع برنامج والوني بروكسيل التي كانت تقام في النجمة الزهراء والتي مكنتني الى اللعب جنبا الى جنب مع كبارات الجاز مثل بيلي بول.
لا اخفي ان التحاقي بالجامعة شكل مرحلة انتقالية ورجة كبيرة. كانت فترة انفتاح على الواقع الاجتماعي والسياسي للبلاد والتي لم يكن لها معنى دون العودة الى الشيخ امام وزياد الرحباني وناس الغيوان وجيل جبلالة واعاني ثورة التحرير الجزائرية مع الشيخ محمد العنقا، كذالك اشعار محمود درويش، امل دنقل، مطر، النواب.
وعلى المستوى المحلي مجموعة البحث الموسيقي، الحمائم البيض، و طبعا مجموعة اجراس التي التحقت بها لمدة أربعة سنوات والتي كانت عائلتي الاولى في ما كان يصطلح عليه بالموسيقى البديلة. كانت اغلب عروضنا منضمة من طرف المنضمة الشغيلة، الى جانب الاتحاد العام لطلبة تونس، ولا اخفي ان تلك المرحلة كانت مرحلة التفكير والتحليل بنسق ايديولوجي، فغادرت مجموعة “Inner circle ” لانها كانت بالنسبة لي بمثابة ترف بورجوازي، فالفنان او المثقف العضوي كان بجب ان يكون ملتزما بقضايا الطبقة الشغيلة ضد نضام تابع لدوائر الراسمال العالمي، نضام البوليس وعصا الرقابة المسلطة على المبدع الحر.
كنت من ضمن المؤسسين في تلك الفترة لمجموعة همسات مع عازف العود الرائع اشرف الشرقي ونخبة من المعهد العالي للموسيقى لكن المشروع لم يصمد ومن ثمة تم الاتصال بي لافتتاح مهرجان قليبية لسينما الهواة سنة 2009الذي كان حدثا مهما كما تعلمين، فقد كان الحدث الثقافي الوحيد بذالك الحجم الذي يستجلب الالاف من الداعمين لثقافة بديلة رغم ان النظام ورقابته المسلطة، اذ كانت عروضنا تحدث بشكل سيريالي. لا يمكن ان يتم عرض من اوله الى اخره، ودون ان تغص القاعة بالبوليس السياسي الذي جعلناه بحفض اغاني الشيخ امام رغما عن انفه، هكذا تواصلت الوضعية الى حين بداية الحراك الديسمبري.
بعد 14 جانفي بدئت جديا في التفكير بإطلاق مشروع شخصي. لم يكن خيارا اعتباطيا نتاج النصوص التي راكمتها ولا أيضا الألحان التي لم اقم بتوزيعها، بل لان الاوان قد آن للتفكير في موسيقى بديلة عن “البديل السائد” ولانني لازلت اعتقد بان الموسيقى البديلة قدمت الكلمة والمضمون عن اللحن والإيقاع والتوزيع فضلت حبيسة مدارج الكلية وقراء الادبيات اليسارية، هل انتفى التجديد الى هذا الحد لنضل على مدى ثلاث اجيال نردد اغاني الشيخ أمام في مدارج الكلية دون بديل؟ في حين ان الشباب والشرائح الاوسع للمواطنين تعيش نمطا اخر قوامه الرداءة والإيقاعية الروتانية، الروتينية، الببغائية، المتناسلة من بعضها بنمط كسول.
على هذا النحو كانت السنتين التي تلتا الثورة رحلة بحث موسيقي في جدلية الشكل والمضمون، العمق والسطح. ماذا لو اصبحت قصائد مضفر النواب مرتكزا للموسيقى الالكترونية؟ ماذا لو تحولت كلمات بالقاسم اليعقوبي الى الجاز وموسيقى الوورد؟ ماذا لواعدنا توزبع اغاني الحمائم البيض على ايقاع السوينغ؟ ماذا لو عدنا الى المخزون الهائل من التراث الشعري الملحمي في الجنوب التونسي ووزعناه على طريقة الريقي ؟ ماذا لو اعدنا مسحة من الحداثة على موسيقى الاسطنبالي واستغلينا عناصرها الفرجوية وطقوسها الجسدية على الركح؟
هكذا ابتدئت الرحلة مع عازفين محترفين من اجل التحضير لعرض موسيقي متكامل تحت مسمى “ملحمة الدغباجي” حيث كان اساس العمل قائما على التجريب من اجل انشائية poïéticité محدثة للتلحين الموسيقي، كانت كل مقطوعة غير مضمونة العواقب، وغير محددة من حيث النتائج وكان العمل الاكثر عسرا هو إحكام التوزيع النهائي قبل الدخول الى الأستوديو. كانت هذه العملية ضربا مما يسميه نيتشة توفيقا بين العنصر الديونيسوسي الذي كان بعمل على الخلق في شكله الخام والعنصر الابولوني الذي يعمل على الشكل والتنميق والسطح. والعمل من بعض أوجهه توفيق بين الكلمة الملتزمة والشكل المعاصر للموسيقى، والاهم من هذا وذاك هو البحث في ما يمكن ان تتحمله هذه الموسيقى التجريبية من تنوع مقاماتي وإيقاعي وتنوع ثقافي. انا كموسيقي لا اومن يمقولة “الثقافة الوطنية”، لايوجد شيء اسمه ثقافة تونسية، بل هنالك ثقافات تونسية ! لا توجد نقاط شبه مقاماتية او إيقاعية بين المألوف التونسي وموسيقى الصالحي في الشمال الغربي والوسط. كما لا توجد بين الاسطنبالي والموسيقى المزود. بقدر ما توجد اوجه تجابه بين الشعبي الجزائري والمالوف التونسي، او القناوة والاسطنبالي. ومن يدرس تاريخ الموسيقى من البعد الانثروبولوجي والاثنولوجي ينتهي ضرورة الى شبكة علاقات ثقافية معقدة من الإرسال الثقافي La transmission culturelle
ربما كانت هذه هي الرحلة النظرية قبل الدخول في المهرجانات سنة 2013 من خلال مهرجان المدينة بنابل، مهرجان دقة الدولى والذي كان تجربة رائعة مع شاعر تونس الصغير أولاد احمد، ثم مهرجان تطاوين الدولي، ومن ثمة الى شيخ المهرجانات، مهرجان طبرقة الدولي، والعشرات من العروض الأخرى الى جانب تكريم تلقيته في ملتقى الموسيقى البديلة.
عموما وان نسيت العديد من المعطبات فهذه البداية عموما.

arablog : ماهي المحاور التي تثير اهتمامك ؟
محمد بن سلامة : أحاول قدر الإمكان الابتعاد عن المواضيع الجاهزة التي تكون حولها فقاعات إعلامية ثم سرعانما تندثر، والكتابة حول المواضيع المنسجمة في المنظومة، لكن تستهويني المواضيع المراوحة بين الهامش والمحور بين الإنسان البسيط وشخصية السياسي بالرغم أنني أحاول ان أكون يقضا لكي لا اسقط في الشعبوية والبؤساوية Miserabilisme التي اصبحت موضة ما بعد الحراك الديسمبري. أحاول مع هذا اضفاء اسلوب من الكوميديا السوداء مثل الذي ستجدينه في الألبوم الأخير من خلال اغاني مثل “يا شيخ”، “همجستان تاون” ، “كار الثورة”، “الزير” وغيرهم، اما في بقية أغاني الألبوم فقد حاولت العمل على كتابة الذات والبحث في هوياتنا الجمعية وربما تلاحظين ان هذا الجزء من الالبوم يشتمل على بحث موسيقي اكبر من الجزء الاول، حيث اشتغلت الإيقاعات الإفريقية والمقامات المخصوصة بمنطقة شمال افريقيا.
لكن الرحلة القادمة للمشروع ستغوض اكثر في الموسيقى العربية والإفريقية والبربرية بتوزيع معاصر اكثر من اللزوم، وفي العروض سأتخلى عن آلة الجيتار لاستبدلها بالهجهوج ستكون الرحلة القادمة اوديسا في الزمن وفي الجغرافيا الشمال افريقية، لان العمل على موروث الاقليات الثقافية هو شكل من اشكال المقاومة، في عالم متعولم اصبح فيه التراث الانساني مهددا بالانذثار ان لم تتم ترجمته بلغة الرقمنة، وانت اول من تعلمين هذا ولاشك.

arablog : ماهي الصعوبات التي واجهتك ؟
محمد بن سلامة : سؤالك صعب با مها، لأنني لا أجد من أين سابدئه ولأنني لا أميل الى السلبية كما سيفهم، ولأنني لا استطيع الحديث عن تجربتي الشخصية بمعزل عن مأساة يعيشها القطاع بأكمله، هل سابدئ بقرار حل اللجان الثقافية؟ ام بالمحسوبية المتفشية في إدارات المهرجانات الكبرى؟ ام بغياب الشفافية التي ارتفعت من تحت الطاولات إلى ما فوقها بطريقة معلنة ؟ ام عن ثقافة افرح بيا ؟ ام غياب مؤسسات تحمي حقوق التأليف بشكل يضمن حقوق الفنان؟ ام ؟ ام ؟
اجدني في كل هذا قد اخترت الخيار الصعب، فانا “لا اضرب على درابويا” بل لا زلت اعتقد ان مصلحة الفرد هي مصلحة الجميع، وان لا مصلحة للثقافة دون العمل على سياسة ثقافية تشاركية بين القطاع الحكومي والمستقل، وان هذا التمشي لا يقتضي فقط جملا رنانة وإنشاء أدبيا واستشهادا بالاتفاقيات اليونسكو، بل جردا عاما للثقافة على المستوى القطاعي والجهوي. وما عدا هذا فسنضل نعيش الاقطاع الثقافي، وهنا اقصد اننا سنضل ننتج في تماسيح الثقافة المستكرشين، كل تمساح ينتج ضيعته مركز ثقافي او شركة إنتاج او الاثنين عادة، يستجلب غلمانه من المتخرجين الجدد من المدارس الفنية والشباب، يستغلهم الى حد النخاع، يمد أقماره الصناعية في لجان الشرائات والدعم، يبتلع ما تيسر من أموال الشعب، يقيم الطاولات، يستجلب الصحفيين، يقيم ما تحت الطاولات، يلهف، الى حدود الانفجار، يتجشأ قبل ان يمد طلعته في التلفزات، ليشتكي من التجويع والتهميش والإقصاء وغياب التمويل الوزاري وهلم جرا من ذالك الخطاب الببغائي المقيح الذي بصيب بقرح. الحل ان تمد وزارة الثقافة يدها بجدية الى عش الدبابير الموجود وسطها قبل خارجها.

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *